كما قال تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما وقال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وقال فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة وخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا أنبئكم بشراركم قالوا بلى يا رسول الله قال المشاءون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت
وأما البغض في الله فهو من أوثق الإيمان عري وليس داخلا في النهي ولو ظهر لرجل من أخيه شر فأبغضه عليه وكان الرجل معذورا فيه في نفس الأمر أثيب المبغض له وإن عذر أخوه كما قال عمر إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا وإذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا الله من أخباركم ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد انطلق به وانقطع الوحي وإنما نعرفكم بما نخبركم ألا من أظهر منكم لنا خيرا ظننا به خيرا وأحببناه عليه ومن أظهر منكم شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه سرائركم بينكم وبين ربكم تعالى وقال الربيع بن خيثم لو رأيت رجلا يظهر خيرا ويسر شرا أحببته عليه
آجرك الله على حبك الخير ولو رأيت رجلا يظهر شرا ويسر خيرا بغضته عليه آجرك الله على بغضك الشر ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظهر أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن خطأ قطعا وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه موضوعا عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والي من يوافقه ولا عادي من خالفه ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم قوله ولا تدابروا
قال أبو عبيد التدابر المصارمة والهجران مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه وهو التقاطع وخرج مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله تعالى وخرجه أيضا بمعناه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي الصحيحين عن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام وخرج أبو داود من حديث أبي خراش السلمي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرانهم لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء وذكر الخطابي أن هجران الوالد لولده والزوج لزوجته وما كان في معنى ذلك تأديبا تجوز الزيادة فيه على الثلاث لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجر نساءه شهرا واختلفوا هل ينقطع الهجران بالسلام فقالت طائفة ينقطع بذلك
وروى عن الحسن ومالك في رواية وهب وقاله طائفة من أصحابنا وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجر ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الرد عليه فأما مع الرد إذا كان بينهما قبل الهجر مودة ولم يعودوا إليها ففيها نظر وقد قال أحمد في رواية الأثرم وسئل عن السلام يقطع الهجران فقال قد يسلم عليه وقد صد عنه ثم قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلتقيان فيصد هذا فإذا كان قد عوده أي أن يكلمه أو يصافحه وكذلك روى عن مالك أنه قال لا يقطع الهجران بدون العودة إلى المودة وفرق بعضهم بين الأقارب والأجانب فقال في الأجانب يزول الهجر بينهم بمجرد السلام بخلاف الأقارب وإنما قال هذا لوجوب صلة الرحم قوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يبيع بعضكم على بيع بعض وقد تكاثر النهي عن ذلك
ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يبيع المؤمن على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه وفي رواية لمسلم لا يسم المسلم على سوم أخيه ولا يخطب على خطبته وخرجاه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له ولفظه لمسلم وخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر وهذا دليل على أن هذا حق المسلم فلا يساويه الكافر في ذلك بل يجوز للمسلم أن يبتاع على بيع الكافر ويخطب على خطبته وهو قول الأوزاعي وأحمد كما لا يثبت للكافر على المسلم حق الشفعة عنده وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن النهي عام في حق المسلم والكافر واختلفوا هل النهي للتحريم أو التنزيه فمن أصحابنا من قال هو للتنزيه دون التحريم والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنه للتحريم واختلفوا هل يصح البيع على بيع أخيه والنكاح على خطبته فقال أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله وأكثر أصحابنا يصح وقال مالك في النكاح إنه إن لم يدخل بها فرق بينهما وإن دخل بها لا يفرق وقال أبو بكر من أصحابنا في البيع والنكاح إنه باطل على كل حال وحكاه عن أحمد ومعنى البيع على بيع أخيه أن يكون قد باع منه شيئا فيبذل للمشتري سلعته ليشتريها ويفسخ بيع الأول وهل يختص ذلك بما إذا كان البذل في مدة الخيار بحيث يمكن المشتري من الفسخ فيه أم هو عام في مدة الخيار وبعدها فيه اختلاف بين العلماء وقد حكاه الإمام أحمد في رواية حرب ومال إلى القول بأنه عام في الحالين وهو قول طائفة من أصحابنا ومنهم من خصه بما إذا كان في مدة الخيار وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن مشيقس ومنصوص الشافعي والأول أظهر لأن المشتري وإن لم يتمكن من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنه إذا رغب في رد السلعة الأولي على بائعها فإنه يتسبب في ردها عليه بأنواع من الطرق المستفيضة لضرره ولو بإلحاح عليه في المسألة وما أدي إلى ضرر المسلم كان محرما والله أعلم وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وكونوا عباد الله إخوانا هكذا ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كالتعليل لما تقدم وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخوانا وفيه أمر باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانا على الإطلاق وذلك يدخل فيه أداء حقوق المسلم على المسلم من رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع الجنازة وإجابة الدعوة والابتداء بالسلام عند اللقاء والنصح بالغيب وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر وخرجه غيره ولفظه تهادوا تحابوا وفي مسند البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة ويروى عن عمر بن عبد العزيز يرفع الحديث قال تصافحوا فإنه يذهب الشحناء وتهادوا وقال الحسن المصافحة تزيد في المودة وقال مجاهد بلغني أنه إذا تراءى المتحابان فضحك أحدهما إلى الآخر وتصافحا تحاتت خطاياهما كما يتحات الورق من الشجر فقيل له إن هذا ليسير من العمل قال يقولون يسير والله يقول لو أنفقت ما في الأرض جمعيا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم الأنفال وقوله صلى الله عليه وآله وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره هذا مأخوذ من قوله تعالى إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم فإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها وهذا من ذلك وأيضا فإن الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفع ويكف عنه الضرر وهذا من أعظم الضرر الذي يجب كفه عن الأخ المسلم وهذا لا يختص بالمسلم بل هو محرم في حق كل أحد
وقد سبق الكلام على الظلم مستوفي عند ذكر حديث أبي ذر الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ومن ذلك خذلان المسلم لأخيه فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم انصر أخاك ظالما أو مظلوما قال يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه خرجه البخاري بمعناه من حديث أنس وخرجه مسلم بمعناه من حديث جابر وخرجه أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر ابن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدره على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة وخرج البزار من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره الله في الدنيا والآخرة ومن ذلك كذب المسلم لأخيه فلا يحل له أن يحدثه ويكذبه بل لا يحدثه إلا صدقا وفي مسند الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت به كاذب ومن ذلك احتقار المسلم لأخيه المسلم وهو ناشئ عن الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بطر الحق وغمط الناس خرجه مسلم من حديث ابن مسعود وخرجه الإمام أحمد وفي رواية له الكبر سفه الحق وازدراء الناس وفي رواية زيادة فلا يراهم شيئا وغمط الناس الطعن عليهم وازدراؤهم قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرا منهن الحجرات فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلي غيره بعين النقص فيحتقرهم ويزدريهم ولا يراهم أهلا لأن يقوم بحقوقهم ولا أن يقبل من أحدهم الحق إذا أورده عليه وقوله صلى الله عليه وآله وسلم التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات فيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى فرب من يحقره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى كما قال الله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكرم الناس قال أتقاهم لله تعالى وفي حديث آخر الكرم التقوى والتقوى أصلها في القلب كما قال الله تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب الحج وقد سبق ذكر هذا المعنى في الكلام على حديث أبي ذر الإلهي عند قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا وإذا كان أصل التقوى في القلوب فلا يطلع أحد على حقيقتها إلا الله تعالى كما قال صلى الله عليه وآله وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة أو مال أو جاه أو رياسة في الدنيا قلبه خراب من التقوى ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوء من التقوى فيكون أكرم عند الله تعالى بل ذلك هو الأكثر وقوعا كما في الصحيحين عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أما أهل الجنة فكل ضعيف مستضعف أشعث ذو طمرين لو أقسم على الله لأبره وأما أهل النار فكل جعظري جواظ جماع مناع ذي تبع وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تحاججت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف وقالت الجنة يا رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين وذكر الحديث وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا فقال رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع لقوله قال فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رأيك في هذا قال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال لا ويسمع لقوله فقال رسول صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملء الأرض مثل هذا وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة الواقعة قال تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين قوله صلى الله عليه وآله وسلم بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه والكبر من أعظم خصال الشر وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر
وفيه أيضا عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته فمنازعة الله تعالى في صفاته التي لا تليق بالمخلوق كفي بها شرا وفي صحيح ابن حبان عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ثلاثة لا تسأل عنهم رجل ينازع الله إزاره ورجل ينازع الله رداءه فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز ورجل في شك من أمر الله تعالى والقنوط من رحمة الله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من قال هلك الناس فهو أهلكهم فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال مالك إذا قال ذلك تحزنا لما يري في الناس يعني في دينهم فلا أري به بأسا وإذا قال ذلك تعجبا بنفسه وتصاغرا فهو المكروه الذي نهى عنه ذكره أبو داود في سننه قوله صلى الله عليه وآله وسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه وهذا مما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب به في المجامع العظيمة فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر ويوم عرفة ويوم الثاني من أيام التشريق وقال إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا وفي رواية للبخاري وغيره وأبشاركم
وفي رواية وفي رواية ثم قال ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب وفي رواية للبخاري فإن الله حرم عليكم أموالكم وأعراضكم ودماءكم إلا بحقها وفي رواية دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مثل هذا اليوم وهذا البلد إلى يوم القيامة حتى دفعة يدفعها مسلم مسلما يريد بها سوء حرام وفي رواية المؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم لحمه عليه حرام أن يأكله أو يغتابه بالغيب وعرضه عليه حرام أن يخرقه ووجهه عليه حرام أن يلطمه ودمه عليه حرام أن يسفكه وحرام عليه أن يدفعه دفعة بغتة وفي سنن أبي داود عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذها ففزع فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل لمسلم أن يروع مسلما وخرج أحمد وأبو داود والترمذى عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبا جادا فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه قال ابن أبي عبيد يعني أن يأخذ شيئا لا يريد سرقته إنما يريد إدخال الغيظ عليه فهو لاعب في مذهب السرقة جاد في إدخال الروع والأذى عليه
وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه ولفظه لمسلم وخرج الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يؤذي المؤمن والله يكره أذى المؤمن وخرج الإمام أحمد من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوارتهم فإن من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره قال أرأيت إن كان فيه ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته فتضمنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق وقد قال الله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا الأحزاب وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر وفي رواية المؤمنون كرجل واحد إن اشتكي رأسه تداعي له سائر الجسد بالحمى وفي رواية له أيضا المسلمون كرجل واحد إن اشتكي عينه اشتكي كله وإن اشتكي رأسه اشتكي كله وفيهما عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال المؤمن مرآة المؤمن المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه وخرجه الترمذي ولفظه إن أحدكم مرآة أخيه فمن رأي به أذى فليمطه عنه قال رجل لعمر بن عبد العزيز اجعل كبير المسلمين عندك أبا وصغيرهم ابنا و أوسطهم أخا فأي أولئك تحب أن تسيء إليه ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة إن لم تنفعه فلا تضره وإن لم تفرحه فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم_أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي